عليكم الا تتزببوا قبل ان تتحصرموا
-------------------------------------------------------------
كان الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى شاعرا مجددا وحكيما ، لا ينشر قصيدة الا بعد ان يدرسها جيدا ، ويمحصها ويتفحص كل تعبير فيها ، فتأتي روعة في السبك والحبك وتحفة في الموسيقى والمعنى . ولذلك ما كانت تخرج من تحت يراعه الا بعد سنه كاملة ، ومن هنا اطلق الرواة والنقاد على اشعاره " الحوليات " . ذكرت هذا الشاعر وانا اطالع " الفن الشعري " لبوالو حيث طالب الشعراء قائلا :" في هذه الصناعة ( الشعر ) اجعل يدك تمر عشرين مرة وملس ونعم وهذب ثم ملس ونعم وهذب ". واظن ان التمليس ومعاودة النظر لا تضعف ابدا من رونق القصيدة ونفسها الشعري ، ولا تجعله متكلفا بل بالعكس تزيده ايحاء ولحمة وهمسا ورؤى ، فالشاعر المطلوب هو ذاك الذي يعيش حب الجمال في حناياه ، وهو الذي يفهم معنى معاودة النظر ، ويفهم ان ما جاء في النزلة الاولى ليس وحيا خاصا بل يحتاج الى تهذيب وصقل وواقعية ، تأخذ بمجامع القلوب والنفس البشري فتستحوذ عليها بجمالها الحسي المنثال كندى السحر على ثغر الاقحوان !! . ابن ابي سلمى شاعر نجد وغطفان سبق بوالو بمئات السنين ، وكان يفعل ما يقول ، ويقول ما يفعل ، فجاء شعره فنا مقدسا ، رسمه بترو وخطه على مهل .
واني لاعجب من كثير من شعراء هذا الزمان الذين يمتنهون هذه الصناعة دون اكتمال العدة ، ودون نضوج الحس الادبي ، ودون التزود بزاد شهي من شعر الشرق والغرب قديمه وحديثه فترى شعرهم فجا ، يابسا لا طراوة فيه ولا طلاوة ، وترى قاموس ادبهم هزيلا وكأنه يعيش سنوات عجافا ، فالمضمون هزيل وهش في اكثر الاحيان ، ويتزيا بثياب يومية باهتة لا روح فيها . والانكى من ذلك قدرتهم الفائقة على " الخلق " فالقصائد تسيل يوميا من اطراف اقلامهم فترى النور كذا " مادة خام " وكأنها لا تحتاج الى تصنيع . ويخطئ من يظن ان الشعراء العظام يرتجلون الشعر ارتجالا والصحيح هو انهم يقفون على كل حركة فيه وهاجس ، يبدلون ويغيرون وينامون ويعودون في منتصف الليل الى لفظة هامسة لاحقوها فاصطادوها فيهبون الى قصيدتهم الوليدة لترصيعها بتلك الكلمة الشاردة او الفكرة الهائمة !! فهذا طاغور شاعر الهند الاكبر ، كان يقضي ليلة كاملة في التفتيش عن كلمة ليسند لها دورا طبيعيا في احدى قصائده . ومن اجمل ما قرأت في هذا الموضوع ، ما رواه خليل مطران للشاعر والاديب اللبناني امين نخلة . قال مطران :" كنا يومئذ في سبلندوبار ، فانشدنا حافظ ابراهيم قصيدته ، عادته في عرض شعره على اخوانه قبل ان يخرجه في الصحف ، فلما انتهى في قصيدته الى قوله :
اذا ارتفع الصياح فلا تلمنا (*)(*)(*)(*) فان الناس في جهد جهيد
قلت له :" ما احببت " ارتفع " هذه فحبذا لو يكون لك ما هو آنس منها . فقال :" انا والله ما احببتها ، ولا تزال عيني على غيرها ...
ثم مضت بضعة ايام على مجلسنا في سبلندوبار فجرى في خاطري :" اذا اعلولى الصباح " وصادفت في بعض الطريق محمد امام العبد الشاعر ، ومن اشهر ظرفاء مصر في وقته ، فقلت له : اذا رأيت حافظ فقل عني انني وجدت اللفظة .
ولم اذكر اللفظة لامام ، فلما مضى النهار ، وكاد اليل ينتصف الا قليلا جاءني حافظ يقرع علي ، وقد تعب وأعيا الى جانبه امام ، فصاح بي بصوت متهدج :" ادركني ، فقد خربت بيتي ، اذ ان هذا الاسود المكار شرب الليلة واكل وسمر على حسابي ، وبقي قائما على رأسي الى الان ، وهو ما زال يداورني ولا يذكر لي اسم الشاعر الذي وجد اللفظة المنشودة حتى اتم حيلته.
قال حافظ : اني والله هكذا حصل . لقد قامت علي " اعلولى " بجنيه ( وكان الجنيه يومنذ لا يوصل اليه بسلم ). من هنا ، فاني اهيب بالشعراء والادباء الواعدين وكتاب وكاتبات قصص الاطفال الذين غطوا وجه الشمس في المدة الاخيرة ، ففي القراءة وفي الكتب الكنز الدفين ، وفيها العدة القمينة للنجاح ، وان لهم في نصيحة احمد امين هدى ، فقد نصحهم قائلا :" عليهم ان لا يتزببوا قبل ان يتحصرموا ".
-------------------------------------------------
كان الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى شاعرا مجددا وحكيما ، لا ينشر قصيدة الا بعد ان يدرسها جيدا ، ويمحصها ويتفحص كل تعبير فيها ، فتأتي روعة في السبك والحبك وتحفة في الموسيقى والمعنى . ولذلك ما كانت تخرج من تحت يراعه الا بعد سنه كاملة ، ومن هنا اطلق الرواة والنقاد على اشعاره " الحوليات " . ذكرت هذا الشاعر وانا اطالع " الفن الشعري " لبوالو حيث طالب الشعراء قائلا :" في هذه الصناعة ( الشعر ) اجعل يدك تمر عشرين مرة وملس ونعم وهذب ثم ملس ونعم وهذب ". واظن ان التمليس ومعاودة النظر لا تضعف ابدا من رونق القصيدة ونفسها الشعري ، ولا تجعله متكلفا بل بالعكس تزيده ايحاء ولحمة وهمسا ورؤى ، فالشاعر المطلوب هو ذاك الذي يعيش حب الجمال في حناياه ، وهو الذي يفهم معنى معاودة النظر ، ويفهم ان ما جاء في النزلة الاولى ليس وحيا خاصا بل يحتاج الى تهذيب وصقل وواقعية ، تأخذ بمجامع القلوب والنفس البشري فتستحوذ عليها بجمالها الحسي المنثال كندى السحر على ثغر الاقحوان !! . ابن ابي سلمى شاعر نجد وغطفان سبق بوالو بمئات السنين ، وكان يفعل ما يقول ، ويقول ما يفعل ، فجاء شعره فنا مقدسا ، رسمه بترو وخطه على مهل .
واني لاعجب من كثير من شعراء هذا الزمان الذين يمتنهون هذه الصناعة دون اكتمال العدة ، ودون نضوج الحس الادبي ، ودون التزود بزاد شهي من شعر الشرق والغرب قديمه وحديثه فترى شعرهم فجا ، يابسا لا طراوة فيه ولا طلاوة ، وترى قاموس ادبهم هزيلا وكأنه يعيش سنوات عجافا ، فالمضمون هزيل وهش في اكثر الاحيان ، ويتزيا بثياب يومية باهتة لا روح فيها . والانكى من ذلك قدرتهم الفائقة على " الخلق " فالقصائد تسيل يوميا من اطراف اقلامهم فترى النور كذا " مادة خام " وكأنها لا تحتاج الى تصنيع . ويخطئ من يظن ان الشعراء العظام يرتجلون الشعر ارتجالا والصحيح هو انهم يقفون على كل حركة فيه وهاجس ، يبدلون ويغيرون وينامون ويعودون في منتصف الليل الى لفظة هامسة لاحقوها فاصطادوها فيهبون الى قصيدتهم الوليدة لترصيعها بتلك الكلمة الشاردة او الفكرة الهائمة !! فهذا طاغور شاعر الهند الاكبر ، كان يقضي ليلة كاملة في التفتيش عن كلمة ليسند لها دورا طبيعيا في احدى قصائده . ومن اجمل ما قرأت في هذا الموضوع ، ما رواه خليل مطران للشاعر والاديب اللبناني امين نخلة . قال مطران :" كنا يومئذ في سبلندوبار ، فانشدنا حافظ ابراهيم قصيدته ، عادته في عرض شعره على اخوانه قبل ان يخرجه في الصحف ، فلما انتهى في قصيدته الى قوله :
اذا ارتفع الصياح فلا تلمنا (*)(*)(*)(*) فان الناس في جهد جهيد
قلت له :" ما احببت " ارتفع " هذه فحبذا لو يكون لك ما هو آنس منها . فقال :" انا والله ما احببتها ، ولا تزال عيني على غيرها ...
ثم مضت بضعة ايام على مجلسنا في سبلندوبار فجرى في خاطري :" اذا اعلولى الصباح " وصادفت في بعض الطريق محمد امام العبد الشاعر ، ومن اشهر ظرفاء مصر في وقته ، فقلت له : اذا رأيت حافظ فقل عني انني وجدت اللفظة .
ولم اذكر اللفظة لامام ، فلما مضى النهار ، وكاد اليل ينتصف الا قليلا جاءني حافظ يقرع علي ، وقد تعب وأعيا الى جانبه امام ، فصاح بي بصوت متهدج :" ادركني ، فقد خربت بيتي ، اذ ان هذا الاسود المكار شرب الليلة واكل وسمر على حسابي ، وبقي قائما على رأسي الى الان ، وهو ما زال يداورني ولا يذكر لي اسم الشاعر الذي وجد اللفظة المنشودة حتى اتم حيلته.
قال حافظ : اني والله هكذا حصل . لقد قامت علي " اعلولى " بجنيه ( وكان الجنيه يومنذ لا يوصل اليه بسلم ). من هنا ، فاني اهيب بالشعراء والادباء الواعدين وكتاب وكاتبات قصص الاطفال الذين غطوا وجه الشمس في المدة الاخيرة ، ففي القراءة وفي الكتب الكنز الدفين ، وفيها العدة القمينة للنجاح ، وان لهم في نصيحة احمد امين هدى ، فقد نصحهم قائلا :" عليهم ان لا يتزببوا قبل ان يتحصرموا ".